المدونة

الأمل في الحقيقة: دليل مبسط لعملية تحديد هوية المفقودين عبر تحليل الحمض النووي (DNA)

بقلم د. جوزيف جورج شنكجي – دكتوراه في هندسة التقانات الحيوية

يساعدنا الحمض النووي DNA في الكشف عن الحقيقة، وتوفير الإجابات عن مصير المفقودين والضحايا لتوفير دفن كريم، وإغلاق الجروح المفتوحة في قلوب الأهالي التي لم تندمل بسبب غموض مصير أولادهم وأعزائهم. هذا الدليل مصمم بلغة واضحة وبسيطة، لشرح كيف يمكن لهذه التكنولوجيا أن تساعد في تحديد هوية رفات المفقودين، وما هي الخطوات المطلوبة للقيام بها.

لماذا يعد اختبار الحمض النووي من أهم طرق تحديد الهوية؟

تخيلوا أن كل إنسان يحمل في خلاياه “بصمة” وراثية فريدة تماماً، لا تشبه أي إنسان آخر في العالم (باستثناء التوائم المتطابقة). هذه البصمة هي الحمض النووي (DNA)، أي المادة الوراثية التي تحدد كل شيء من لون عيوننا إلى صفاتنا الشخصية. أهمية تحليل DNA في تحديد هوية الضحايا تكمن في:

  • الدقة الفائقة: هو الطريقة الأكثر دقة وموثوقية على الإطلاق لتحديد هوية شخص من خلال رفاته. دقته تفوق بكثير طرق التعريف التقليدية مثل الأسنان أو السجلات الطبية، خاصة عندما تكون الرفات في حالة سيئة أو متحللة.
  • التعريف حتى في الظروف الصعبة: حتى لو تعرضت الرفات لعوامل طبيعية قاسية (مثل الحرارة، الرطوبة، التربة، أو مرور الزمن)، ولم يعد هناك أي معالم خارجية يمكن التعرف عليها، فإن الحمض النووي قد يبقى محفوظاً داخل العظام والأسنان، ويمكن استخلاصه وتحليله.
  • الربط بين الأحياء والرفات: يمكن مقارنة الحمض النووي المستخرج من الرفات مع الحمض النووي المأخوذ من الأقارب الأحياء (مثل الآباء، الأمهات، الأبناء، الإخوة) لإثبات وجود علاقة قرابة، وبالتالي تحديد هوية الضحية.

خطوات عملية الكشف عن الهوية باستخدام تحليل الحمض النووي:

1- جمع العينات:

تُجمع عينات من الرفات (الضحايا): هذه هي الخطوة الأكثر تحدياً. يتم جمع عينات من العظام (خاصة العظام الكثيفة مثل الفخذ أو الورك) أو الأسنان. لماذا؟ لأن هذه الأجزاء تحمي الحمض النووي بشكل أفضل من باقي الجسم ضد التلف الناتج عن البيئة والتحلل البكتيري. عملية الجمع تتطلب فريقاً متخصصاً في الطب الشرعي وعلم الآثار الجنائية، يعملون بدقة واحترام في مواقع الدفن أو المقابر الجماعية. إنها عملية معقدة وحساسة.

عينات من الأهالي (الأقارب): هذه الخطوة أسهل بكثير وأقل إيلاماً. يتم أخذ عينة من الدم (عبر وخزة بسيطة في الذراع) أو مسحة من داخل الفم (اللعاب) باستخدام عود قطني صغير. هذه العينات كافية لاستخلاص الحمض النووي الخاص بكم. كلما زاد عدد الأقارب الذين يقدمون عينات (خاصة الأقارب من الدرجة الأولى مثل الوالدين، الأبناء، الإخوة)، زادت فرصة نجاح المطابقة لاحقاً.

من الممكن في حال توفر عينات حمض نووي للشخص نفسه قبل فقدانه، مثل عينات من فرشاة الأسنان أو المشط أو فحص طبي سابق للفقدان بوقت قصير أن تؤخذ العنية منها وعمل مطابقة تامة للحمض النووي للرفات.

2- استخلاص الحمض النووي:

في المختبر، يقوم العلماء بعزل وتنقية الحمض النووي من العينات (سواء من الرفات أو من الأهالي)، وإزالة أي شوائب قد تعيق التحليل. 

3- تحليل الحمض النووي:

هنا تظهر قوة العلم. فهناك عدة طرق لتحليل الحمض النووي، واختيار الطريقة يعتمد على حالة العينة والهدف:

  • اختبار STR Short Tandem Repeats – التكرارات القصيرة المتتالية: هذا هو الاختبار الأكثر شيوعاً والأسرع في حالات تحديد الهوية. يقوم بتحليل مناطق محددة في الحمض النووي تحتوي على تكرارات قصيرة لقطع موروثة. ينتج عنه “بصمة وراثية” فريدة للشخص. مميزاته: سريع، دقيق، رخيص نسبياً، جيد للمقارنة المباشرة بين عينة الرفات وعينة قريب مباشر (أم، أب، ابن، ابنة). عيوبه: قد لا يعمل جيداً إذا كان الحمض النووي في الرفات متضرراً بشدة أو إذا كان القريب البديل من الدرجة الثانية أو الثالثة.
  • اختبار NGS Next-Generation Sequencing – التسلسل الجيلي التالي: هذه تقنية متطورة جداً تقرأ تسلسل الحمض النووي بشكل كامل أو شبه كامل. مميزاته: قادر على العمل على عينات الرفات المتضررة بشدة حيث يعطي معلومات أكثر تفصيلاً. يمكن استخدامه لتحديد هوية من خلال مقارنة مع قواعد بيانات كبيرة أو حتى مع أقارب أبعد. عيوبه: أغلى ثمناً، يستغرق وقتاً أطول، يتطلب خبرة عالية في تحليل البيانات.
  • اختبار SNP Single Nucleotide Polymorphisms – تعدد أشكال النوكليوتيدات المفردة: يقوم بتحليل مواقع محددة جداً في الحمض النووي تختلف بين الأفراد. مميزاته: مفيد جداً عندما يكون الحمض النووي متضرراً (لأنه يحلل نقاطاً قصيرة)، وفعال في تحديد القرابة البعيدة (مثل الأعمام، الخالات، أبناء العمومة) من خلال مقارنة آلاف النقاط. عيوبه: أقل دقة من STR في التعريف المباشر، يتطلب قواعد بيانات مرجعية كبيرة.
4- المقارنة وتحديد الهوية:

يقوم العلماء بمقارنة “البصمة الوراثية” المستخرجة من رفات الضحية مع “البصمات الوراثية” لعينات الأقارب المسجلة في قاعدة البيانات. إذا وجد تطابق قوي (خاصة مع STR) أو نمط قرابة واضح (خاصة مع SNP أو NGS)، يتم تحديد هوية الضحية.

التحديات: لماذا قد لا تكون العملية سهلة؟

يعد تلف الحمض النووي في الرفات التحدي الأكبر، والعوامل التالية تدمر الحمض النووي:

  • الحرارة العالية: النار أو التعرض لأشعة الشمس المباشرة لفترات طويلة.
  • الرطوبة والماء: الغمر أو الدفن في تربة رطبة.
  • الحموضة أو القلوية الشديدة في التربة.
  • البكتيريا والفطريات: التي تتغذى على الأنسجة الرخوة وتهاجم العظام.
  • مرور الزمن: كلما طالت مدة الدفن، زاد التلف.
  • المواد الكيميائية: مثل المواد المستخدمة في التحنيط أو المتفجرات.

هذا التلف يجعل استخلاص DNA كاملاً وصالحاً للتحليل صعباً للغاية، وقد يتطلب استخدام تقنيات متخصصة مثل NGS أو SNP، وقد لا تنجح العملية في بعض الحالات رغم كل الجهود.

  • نقص عينات الأقارب: قد لا يتوفر أقارب من الدرجة الأولى (أحياناً يكونون مفقودين أيضاً)، أو قد يصعب الوصول إليهم أو إقناعهم بتقديم عينة. كلما قل عدد الأقارب المرجعيين، ضعفت فرصة المطابقة.
  • الوقت والتكلفة والخبرة: العملية بأكملها تتطلب وقتاً طويلاً (قد يستغرق تحديد هوية ضحية واحدة أشهراً أو سنوات)، تكاليف مالية عالية (للمعدات، المواد، الخبراء)، وفريقاً متخصصاً ومدرباً على أعلى مستوى.
  • معالجة البيانات: تحتاج البيانات الوراثية إلى معالجة برمجية معقدة ومطابقة لقواعد البيانات للأهل والمفقودين، وهذا يتطلب إمكانيات كبيرة. علماً أن هذه البيانات تعد سرية ويجب تشفيرها وتخضع لرقابة أخلاقية من الجهات المسؤولة الرسمية.

ما هو المطلوب من أهالي المفقودين والضحايا؟

  • التسجيل في قواعد البيانات: تواصلوا مع المنظمات الدولية والمحلية الموثوقة التي تعمل على ملف المفقودين في سوريا (مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر – ICRC). سجلوا أسماء أحبائكم المفقودين ومعلوماتكم كأقارب.
  • تقديم عينة مرجعية: عندما تطلب منكم المنظمة المسؤولة، تفضلوا بتقديم عينة الدم أو اللعاب. هذه هي أهم خطوة يمكنكم القيام بها للمساعدة في تحديد هوية أحبائكم مستقبلاً. العملية سريعة وآمنة.
  • نشر الوعي: شاركوا هذا المعلومات مع عائلات أخرى تعاني نفس المصير. كلما زاد عدد الأقارب المسجلين والمقدمين للعينات، زادت فرص نجاح المطابقة للجميع.

من المهم معرفة أن تحليل الحمض النووي ليس حلاً فورياً، ولا ضماناً للعثور على كل مفقود، لكنه أداة علمية دقيقة ومعقدة، تتطلب ظروفاً مناسبة ووقتاً وجهوداً كبيرة، ويوفر أملاً واقعياً في الحصول على اليقين، ومعرفة مصير المفقودين، وفي استعادة رفاتهم لدفنها بكرامة إنسانية. لذا، كل عينة تقدمونها، كل اسم تسجلونه، هو خطوة على طريق الأمل نحو معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة، ولو بعد حين.

 

المصدر

https://www.interpol.int/How-we-work/Forensics/I-Familia

Association

Recent Posts

الإصدار رقم: 6 (من 1 نيسان/أبريل 2025 إلى 30 حزيران/يونيو 2025)

الملخص الإعلامي لمشروع دعم روابط الضحايا مع بدء المرحلة الانتقالية في سوريا عقب سقوط نظام…

3 أسابيع ago

طلب عروض – تنفيذ جلسات علاج بالفن (صناعة الشموع)

موقع العمل: عن بعد تاريخ الإعلان: 24/07/2025 الموعد النهائي لتقديم الطلبات: 03/08/2025 نوع العقد: عقد…

4 أسابيع ago

فرصة تطوع في قسم التوثيق

المسمى الوظيفي: موثق/ة  مكان العمل: عن بعد تاريخ الإعلان: 18-07-2025 آخر موعد للتقديم: 25-07-2025 نوع…

شهر واحد ago

اعلان تعاون مع مراكز تدريبية

اعلان تعاون مع مراكز تدريبية موقع العمل: عن بعد تاريخ الإعلان: 08/07/2025 الموعد النهائي لتقديم…

شهر واحد ago

انضم الينا | أخصائي تكنولوجيا المعلومات والبيانات

عنوان الوظيفة الشاغرة: اخصائي تكنولوجيا المعلومات والبيانات رمز الوظيفة الشاغرة: IT-001 مكان العمل: عن بعد…

شهر واحد ago

النشرة الإخبارية: إصدار رقم 5 : من 1 كانون الثاني/يناير 2025 إلى 31 آذار/مارس 2025

النشرة الإخبارية: إصدار رقم 5 : من 1 كانون الثاني/يناير 2025 إلى 31 آذار/مارس 2025…

3 أشهر ago