17 يوليو بوح صور

على تلك الأريكة الرمادية المتعبة جلست أتامل ألوان الحائط الأبيض المقابل لي، وقد انعكس بحائطيته على دماغي فلم أكن أرغب بإ عماله ولو للحظة واحدة. ماذا بعد الذي رأيت وعايشت ا؛ من تماوج. أفواج الهائمين  تهدر نحو اللامكان دون وجهة او درب مرسوم.

البعض حمل همومه و مايلزمه من أقل المتاع، والبعض رمى كل شيء دون اكتراث؛ فلا قيمة لشيء الآن. ما جدوى أن نحمل متاعنا على ظهورنا دون أن  ندري إلى أي درب ستقودنا أقدامنا.

صور مرعبة الآن عاودت الظهور من جديد؛ حيث العائلات تئن وتترنح باحثة عن أبنائها الضائعين بين حنايا صور تجمع أشلاءهم التي مزقها الجلاد في معتقلات النظام السوري، وفي كل زاوية منها تقبع بقايا ملامح طمسها التعذيب تتوق ألى قبلة وداع من أحبابها قبل أن يطويها الغياب الأبدي . يالرحيلهم الذي أضنى القلوب وأرخى حزنا ثفيلا  مقيتا على أفئدتنا  المكلومة؛ كما خيم سكون اسود على جنبات بلدتنا يوما ما.

يوم أغبر لم نختبره من قبل، يوم الاقتحام الأول ، و يوم الاعتقال الأول ،مازال ذلك السواد يلوح أمام وجهي لايغيب ، سواد ساد لساعات طويلة بعد حملة دهم طالت البيوت والبساتين والزواريب والحارات  وقبيل الغروب بساعة تمكنت من التسلل من مخبئي خرجت لأجد شمس ذلك اليوم مغايرة  لما ألفتُ من شموس،  صفراء باهتة كإنسان عانى من مرض عضال لسنوات وقبل رحيله إلى دار الخلد غطى وجهه نور أصفر باهت ساد لهنيهة ثم انطفأ إلى الأبد.

في الحقيقة كل شيء كان مختلفاً مما أشعرني للحظة أنني من أصحاب الكهف، وقد خرجت لتوي بعد سبات دام لمئة عام، ثم بعثت لأجد أن  كل شيء قد تغير ،  أو ربما لم يتغير شيء بل اكتست الأشياء حلة حزينة غيرت ملامحها فباتت غريبة عني.

انطلقت في طرقات البلدة أبحث عن زوجي وإخوتي أبحث عن وجوههم في أوراق كل شجرة مررت أمامها وكل ذرة تراب داستها قدماي في كل باب صادفته في دربي ؛ سرت في الطرقات الخالية من كل شيء إلا من أرتال جنود يرتدون بزاتهم  الخضراء المموهة التي تخفي تحتها رائحة جرائمهم التي ارتكبوها في هذا اليوم ….أين اختفى الجميع لم لا أرى أحدًا.

صادفت زوجة أخي الهائمة هي الأخرى على وجهها تبحث مثلي عن ملامح زوجها في كل مكان وتصادَفَ خروج السؤالين من فمنا في ذات اللحظة : هل اعتقل زوجك؟

والإجابة ايضًا خرجت موحدة : نعم .

لم يكن لأخي  الطبيب حينذاك  أي ذنب  سوى أنه كان يساعد من أصيب بطلق ناري في المظاهرات وذلك بعلاجه ومواساته …إذاً الإنسانية باتت جرمًا يستحق اقسى أنواع العقاب والتعذيب.

الرجال جميعهم في مبنى البلدية ، اعتقلوا واحتجزوا هناك جاءت هذه العبارة الصادمة من امرأة مرت للتو من المكان لابد أنها تبحث هي الأخرى عن أحد ما.

أتمت المرأة العبارة بقولها دماؤهم تسيل وقد رأيت سلسالاً من الدم يتسرب هناك حاولت تجاهل قولها وانطلقت نحو البلدية ومن بعيد طالعتني رائحة الدماء الواخزة  تسللت إلى أنفي اخترقت وعششت في لحاء جلدي المقشعر .

الموت ريح أصفر حل ككارثة؛ ريح  هبت فابتلعت كل شيء وأخفت تحت جناحها الواهن كل حياة.

جررت أقدامي المتثاقلة إلى أن وصلت إلى منزل والدتي التي استقبلتني بالنحيب والبكاء فلطمت قلبي كلماتها الخارجة بصعوبة :لقد راااحوا جميعهم ، عشرة رجال الآن بين فكي وحش لايرحم ……حزم الفرح متاعه لوّح وغاب في الأفق .  لا مكان له اليوم بيننا . دمعتي تبكي كل واحد فيهم. على من سأحزن أكثر على زوجي أم على إخوتي أم أبناء إخوتي كل واحد يتربع في قلبي  في مكانه المألوف لايتزاحمون؛ فقد خصصت لكل منهم عرشًا فيه يعتليه.

بين اصحاب الصور اليوم الكثيرون الذين يشبهونهم ولهم في قلوب أحبابهن عروش يعتلونها ايضا ، ولديهم أمهات تبكينهم كأمي.

تلك المرأة الرزان التي تمتلك حكمة ألف رجل وتخفي تحت تجاعيد وجهها قصة عمر بأكمله وهبته لي ولأخوتي الذين باتت تفتقدهم اليوم لقد حضنتهم صغارا وكبروا تحت ناظريها كما تكبر زهرة غاردينيا على شرفة منزل ريفي.

لاحت لي ضحكاتهم عندما كانوا يدخلون صباح العيد هاشين باشين، يدندنون أغان اعتدنا على غنائها سوية .

هل سيتمكنون من شم عبير الياسمين الذي طالما جلسوا تحت شجيرته في حديقة منزلي، هل سيتسنى لهم الهروب من إطار هذه الصور والعودة إلى الحياة . بعد ان قبعوا منذ سنوات في مكان تفوح منه رائحة الظلم وعفن التعسف ويسود فيه شبح من سلبوهم نسائم الحرية ذلك الشبح الذي يلاحقهم دون هوادة . من سكب الأسيد فوق الجسد الضعيف العاري ومن أطفأ لفافة تبغه في أنحاء هذا الجسد المتهالك؛ إنهم تنانين غذيت بالطائفية البغيضة لسنوات وعندما سنحت لهم الفرصة قاموا بصبها بلا هوادة ولا مبالاة

رأيت أحبابي في هذه الصور وقد تحولوا إلى هياكل عظمية ممسوحة المعالم غير أن صورتهم الحية الباقية في قلبي هي تلك التي كانوا فيها حياة تنبض بالحب وستبقى في ناظري صورهم كما كانت

بقلم: أمل قريب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *